فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا}.
قال أصحابنا معناه: ولو شئنا رفعناه للعمل بها، فكان يرفع بواسطة تلك الأعمال الصالحة منزلته، ولفظة لَوْ تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فهذا يدل على أنه تعالى قد لا يريد الإيمان، وقد يريد الكفر.
وقالت المعتزلة: لفظ الآية يحتمل وجوهًا أخرى سوى هذا الوجه.
فالأول: قال الجبائي معناه: ولو شئنا لرفعناه بأعماله، بأن نكرمه، ونزيل التكليف عنه، قبل ذلك الكفر حتى نسلم له الرفعة، لكنا رفعناه بزيادة التكليف بمنزلة زائدة، فأبى أن يستمر على الإيمان.
الثاني: لو شئنا لرفعناه، بأن نحول بينه وبين الكفر، قهرًا وجبرًا، إلا أن ذلك ينافي التكليف.
فلا جرم تركناه مع اختياره.
والجواب عن الأول: أن حمل الرفعة على الإماتة بعيد، وعن الثاني: أنه تعالى إذا منعه منه قهرًا، لم يكن ذلك موجبًا للثواب والرفعة.
ثم قال تعالى: {ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض} قال أصحاب العربية: أصل الإخلاد اللزوم على الدوام، وكأنه قيل: لزم الميل إلى الأرض، ومنه يقال: أخلد فلان بالمكان، إذا لزم الإقامة به.
قال مالك بن سويد:
بأبناء حي من قبائل مالك ** وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا

قال ابن عباس: {ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الارض} يريد مال إلى الدنيا، وقال مقاتل: بالدنيا، وقال الزجاج: سكن إلى الدنيا.
قال الواحدي: فهؤلاء فسروا الأرض في هذه الآية بالدنيا، وذلك لأن الدنيا هي الأرض، لأن ما فيها من العقار والضياع وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان مستخرج من الأرض، وإنما يقوى ويكمل بها، فالدنيا كلها هي الأرض، فصح أن يعبر عن الدنيا بالأرض، ونقول: لو جاء الكلام على ظاهره لقيل لو شئنا لرفعناه، ولكنا لم نشأ، إلا أن قوله: {ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض} لما دل على هذا المعنى لا جرم أقيم مقامه قوله: {واتبع هَوَاهُ} معناه: أنه أعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات واتبع الهوى، فلا جرم وقع في هاوية الردى، وهذه الآية من أشد الآيات على أصحاب العلم، وذلك لأنه تعالى بعد أن خص هذا الرجل بآياته وبيناته، وعلمه الاسم الأعظم، وخصه بالدعوات المستجابة، لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب، وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله في حقه أكثر، فإذا أعرض عن متابعة الهدى وأقبل على متابعة الهوى، كان بعده عن الله أعظم، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: «من ازداد علمًا، ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدًا» أو لفظ هذا معناه.
ثم قال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} قال الليث: اللهث هو أن الكلب إذا ناله الإعياء عند شدة العدو وعند شدة الحر، فإنه يدلع لسانه من العطش.
واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلاب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وأخس الحيوانات هو الكلب، وأخس الكلاب هو الكلب اللاهث، فمن آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا، وأخلد إلى الأرض، كان مشبهًا بأخس الحيوانات، وهو الكلب اللاهث، وفي تقرير هذا التمثيل وجوه: الأول: أن كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في حال الإعياء، وفي حال الراحة، وفي حال العطش، وفي حال الري، فكان ذلك عادة منه وطبيعة، وهو مواظب عليه كعادته الأصلية، وطبيعته الخسيسة، لا لأجل حاجة وضرورة، فكذلك من آتاه الله العلم والدين أغناه عن التعرض لأوساخ أموال الناس، ثم إنه يميل إلى طلب الدنيا، ويلقى نفسه فيها، كانت حاله كحال ذلك اللاهث، حيث واظب على العمل الخسيس، والفعل القبيح، لمجرد نفسه الخبيثة.
وطبيعته الخسيسة، لا لأجل الحاجة والضرورة.
والثاني: أن الرجل العالم إذا توسل بعلمه إلى طلب الدنيا، فذاك إنما يكون لأجل أنه يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها، ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات، وتقرير تلك العبارات يدلع لسانه، ويخرجه لأجل ما تمكن في قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا، فكانت حالته شبيهة بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبدًا من غير حاجة ولا ضرورة، بل بمجرد الطبيعة الخسيسة والثالث: أن الكلب اللاهث لا يزال لهثة ألبتة، فكذلك الإنسان الحريص لا يزال حرصه ألبتة.
أما قوله تعالى: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} فالمعنى أن هذا الكلب إن شد عليه وهيج لهث وإن ترك أيضًا لهث، لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له، فكذلك هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسارة عادة أصلية وطبيعية ذاتية له.
فإن قيل: ما محل قوله: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}.
قلنا: النصب على الحال، كأنه قيل كمثل الكلب ذليلًا لاهثًا في الأحوال كلها.
ثم قال تعالى: {ذلك مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} فعم بهذا التمثيل جميع المكذبين بآيات الله قال ابن عباس: يريد أهل مكة كانوا يتمنون هاديًا يهديهم وداعيًا يدعوهم إلى طاعة الله، ثم جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته فكذبوه، فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل هذا الكلب الذي بقي على اللهث في كل الأحوال.
ثم قال: {فاقصص القصص} يريد قصص الذين كفروا وكذبوا أنبياءهم {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} يريد يتعظون. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا} يعني بالآيات ويقال: رفعناه في الآخرة بما علمناه من آياتنا {ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض} يعني: أمية بن أبي الصلت أو بلعم بن باعوراء مال إلى الدنيا ورضي بها {واتبع هَوَاهُ} أي هوى نفسه ويقال: عمل بهوى المرأة وترك رضى الله ويقال: أخذ مسافل الأمور وترك معاليها {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} يقول: مثل بلعم كمثل الكلب {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} يقول: إن طردته فهو يلهث {أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} يعني: وإن تركته فهو يلهث.
قال القتبي: كل شيء يلهث من إعياء أو عطش ما خلا الكلب.
فإنه يلهث في حال الراحة والصحة والمرض.
فضرب الله تعالى به مثلًا يعني: كما أن الكلب إن طردته أو تركته يلهث فكذلك بلعم أو أمية بن أبي الصلت إن وعظته لم يتعظ وإن تركته لم يفعل.
وقال مجاهد: يعني الكفار إن قرئ عليهم الكتاب لم يقبلوا، وإن لم يقرأ عليهم لم يعملوا هم أهل مكة.
{ذلك مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بثاياتنا} يعني: ذلك صفة الذين جحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن {فاقصص القصص} أي اقرأ عليهم القرآن {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: لكي يتعظوا بأمثال القرآن ويؤمنوا به.
قوله تعالى: {سَاء مَثَلًا} يعني: بئس مثل {القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتنا} يعني: بئس مثل من كان مثل الكلب، وإنما ضرب المثل بالكلب تقبيحًا لمذهبهم.
ويقال: {بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ} وكانت صفتهم مثل صفة بلعم وهم أهل مكة كذبوا بآياتنا، فلم يؤمنوا بها مثل بلعم {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} يعني: يضرون بأنفسهم. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي فضلناه وشرفناه ورفعنا منزلته بالآيات. وقال ابن عباس: رفعناه بها.
وقال مجاهد وعطاء: يعني لرفعنا عنه الكفر بالآيات وعصمناه.
{ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض} قال سعيد بن جبير: ركن الى الأرض. مجاهد: سكن. مقاتل: رضي بالدنيا. أبو عبيدة: لزمها وأبطأ، والمخلد من الرجال هو الذي يبطئ شيبه ومن الدواب التي تبقى ثناياه حتّى تخرج رباعيتاه.
قال الزجاج: خلد وأخلد واحد وأجعله من الخلود وهو الدوام والمقام يقال خلد فلان بالمقام إذا أقام به. ومنه قول زهير:
لمن الديار غشيتها بالغرقد ** كالوحي في حجر المسيل المخلد

يعني: المقيم.
وقال مالك بن نويرة:
فما نبأ حيّ من قبائل مالك ** وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا

{واتبع هَوَاهُ} قال الكلبي: يتبع خسيس الأمور ويترك معاليها.
وقال أبو روق: اختار الدنيا على الآخرة. وقال ابن زيد: كان هواه مع القدم قال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه، وقال يمان: واتبع هواه أي امرأته لأنّها حملته على الخيانة.
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} قال مجاهد: هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به، وقال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث وهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع.
وروى معمر عن بعضهم قال: هو الكافر ضال إن وعظته أو لم تعظه.
قال ابن عباس: معناه إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تتركه لم يهتدِ بخير كالكلب إن كان رابضًا لهث وإن طرد لهث. وقال الحسن: هو المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أو لم يدع وعظ أو لم يوعظ كالكلب يلهث طرد أو ترك، قال عطاء: ينبح إن يحمل عليه وإن لم يحمل، وقال القتيبي: كل شيء يلهث من إعياء أو عطش إلاّ الكلب، فإنّه يلهث في حال الكلال وحال الراحة، وحال الصحة وحال المرض، وحال الجوع وحال العطش فضربه الله مثلًا لمن كذب بآياته.
فقال: إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته لهث ونظيره قوله: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} روى محمد بن إسحاق عن سالم أبي الخضر قال: يعني مثل بني إسرائيل أي إن جئتهم بخبر ما كان فيهم ما غاب عنك {لعلهم يتفكرون}.
فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عما مضى فيهم إلاّ نبي يأتيهم خبر السماء. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَلَو شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}.
فيه وجهان:
أحدهما: يعني لأمتناه فلم يكفر.
والثاني: لحلنا بينه وبين الكفر فيصير إلى المنزلة المرفوعة معصومًا، قاله مجاهد.
{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} أي ركن إليها. وفي ركونه إليها وجهان:
أحدهما: أنه ركن إلى أهلها في استنزالهم له ومخادعتهم إياه.
والثاني: أنه ركن إلى شهوات الأرض فشغلته عن طاعة الله، وقد بين ذلك قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}.
ثم ضرب مثله بالكلب {... إِن تَحْمِْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} وفي تشبيهه بالكلب اللاهث وجهان:
أحدهما: لدناءته ومهانته.
الثاني: لأن لهث الكلب ليس بنافع له. اهـ.